في عام ١٩٤٣، كان الطبيب النفسي ليو كانر يصدر تقريره الطبي حول أحد عشر طفلا يقبعون في عيادته -بجامعة هارفارد- تحت الفحص بسبب أعراض سلوكية غريبة، ليتوصّل بعد أعوام من بحثه إلى تشخيص هذه الأعراض باسم مستحدث في عالم الطب النفسي. "التوحُّد" أو (Autism) كان هو المصطلح الذي سكّه الدكتور كانر كتعبير عما يعانيه هؤلاء الصغار من أنماط سلوكية لم يسمع بها، ولم يقابلها في أي من الأبحاث النفسية، من قبل.
من هنا بدأ تصنيف الحالة، والاصطلاح عليها عند الأخصائيين بهذا الاسم الذي تكرر سماعه بعدها كثيرا، فمن 5 أطفال -كبداية للانتشار- يصابون من أصل 10 آلاف، بلغت نسبة المصابين بعد فترة قصيرة إلى 75 طفلا في كل 10 آلاف من عمر (5-11) سنة. وتعود أسباب الانتشار تلك إلى عدد من العوامل التي يفترضها المختصون، فعلى الرغم من عدم وجود أسباب يقينية للتوحد فإن الطبيبة سونا تهتموني ترى إمكانية إرجاع هذا الاضطراب إلى عدد من الأسباب الجينية، كالأمراض الوراثية والتأثيرات البيولوجية على الجنين أثناء فترة الحمل، أو إلى بعض العوامل البيئية، كافتقاد الطفل لبيئته الاجتماعية الصحية في بداية عمره.
وفي هذا السياق، يؤكّد الدكتور حفني عبده، أخصائي التوحد وتنمية السلوك، أن 40% من الحالات التي قابلها كانت تعاني من افتقار التواصل الأسري، واقتصار محصلة الطفل اللغوية والإدراكية على برامج الأطفال وأفلام الكارتون، فتقول أم ياسين -والدة أحد الأطفال المتوحدين- أن قضاء طفلها لساعات النهار أمام قنوات الأطفال قد جعله عدوانيا يرفض اللعب مع أقرانه أو الامتثال لندائها عليه، فصار يتمتم بكلمات غير مفهومة، سابحا في عالم خيالي عزله عن أسرته ومحيطه.
وعن الأعراض نفسها يروي الكثير من الآباء والأمهات معاناتهم مع هؤلاء الصغار، فبدلا من مساعدة قنوات الأطفال الأهل في إلهاء الطفل عن الصراخ والمشاغبة، أصبحت تلك القنوات -في كثير من الحالات- تصدّر للوالدين أعباء من نوع آخر. فما تلك الأعباء، وما أثرها؟ وهل فعلا تؤدي الشاشة والتكنولوجيا الحديثة إلى التوحد "كاضطراب"، أم إنها تتسبب في أشياء أخرى تتشابه معه ويمكن علاجها ببساطة؟
الانعزال والتوحد والذاتوية، ثلاثة مصطلحات تعبر عن الخلل الحادث في النمو العصبي للطفل في أعوامه الثلاثة الأولى، مما يؤثر بشكل شديد على تطور وظائف العقل لديه في ثلاثة مجالات أساسية: التواصل واللغة، والمهارات الاجتماعية، والقدرة على التخيل. ويختلف التوحد عن الانطوائية في كونه حالة مرضية وليس مجرد عزلة عن الآخرين وحسب، وعادة ما يقترن برفض للتعامل مع الآخرين مع سلوكيات ومشاكل متباينة من شخص لآخر.
وترى الدكتورة "تهتموني" أن التوحد لا يستحق اسم المرض، وإنما هو اضطراب عصبي يعرض المصابين به إلى عدد من المشاكل النفسية، وأضافت الدكتورة تهتموني أن التوحد اضطراب وليس مرضا، لأن المرض تكون أسبابه معروفة ويوجد علاج شافٍ له، أما التوحد فنحن لا نعرف لحد الآن أسبابه، كما لا يوجد له علاج.
وترى ماريا -كذلك- أن التوحد مصطلح يشير إلى الانغلاق على النفس، والاستغراق في التفكير، وضعف القدرة على الانتباه والتواصل وإقامة علاقات اجتماعية مع الآخرين، إلى جانب وجود النشاط الحركي المفرط. ويمكن النظر إلى أعراض التوحد بوصفها أعراضا سلوكية واجتماعية؛ إذ لا يتمتع الطفل المصاب بالود والملاطفة الاجتماعية كباقي الأطفال، ويظهر ذلك في عدم تفاعله مع من حوله حتى مع عائلته أيضا.
وفي الغالب، لا يمكن ملاحظة التوحد بشكل واضح حتى سن 24-30 شهرا، كما أن أعراضه قد تكون متداخلة مع أعراض لأمراض أخرى؛ لذا فإنه في الظروف المثالية، يجب أن يتم تقييم حالة الطفل من قِبل فريق كامل من تخصصات مختلفة، حيث يمكن أن يضم هذا الفريق: اختصاصي أعصاب، اختصاصيا أو طبيبا نفسيا، طبيب أطفال متخصصا في النمو، اختصاصي علاج لغة وأمراض نطق، اختصاصي علاج مهني واختصاصيا تعليميا، ومتخصصين ممن لديهم معرفة جيدة بالتوحد.
على الرغم من اكتشاف الدكتور كانر لتميز أعراض التوحد عن غيره، ومن ثم تصنيفه كحالة خاصة، فإن الأسباب المؤدية إلى إصابة الطفل به لا تزال غير مؤكدة، فحسب الدكتورة تهتموني، فإن العوامل المسببة للتوحد غير معروفة لحد الآن، ولكن هنالك عوامل وراثية وبيئية تزيد من خطر التوحد، مثل: جنس المولود، فالذكور أكثر عرضة للتوحد من الإناث بأربعة أضعاف، ووجود حالة سابقة في الأسرة، أو بعض الأمراض الوراثية، بالإضافة إلى افتقاد بيئة اجتماعية غنية خلال السنة الأولى من عمره.
وحسب دكتور التربية عبد الرحمن سيد في كتابه "الذاتوية"، فإن العديد من الأخصائيين قد اتفقوا على عدم وجود أسباب واضحة وقطعية للتوحد، إذ يواجه الأخصائيون صعوبتين بخصوص هذا الاضطراب، أولهما في تأثيره على سلوك الطفل، وثانيهما في صعوبة تشخيص الحالة وتداخل أعراض التوحد -كما تقدم- مع أعراض أخرى لاضطرابات مختلفة.
إلا إن عددا من الباحثين قد يرجعون الأسباب إلى الاضطرابات العصبية كنتيجة للمشكلات المرتبطة بالتفاعلات الحيوية بالمخ، كما يرجعها البعض الآخر إلى أسباب بيئية، أو إلى مجموعة مختلطة من الأسباب العصبية والبيئية المتزامنة. ويرى أنصار العوامل البيئية أن الخبرات الأولى في حياة الطفل تؤثر على نموه في المراحل التالية، وأن الفشل في إقامة علاقات مع الطفل قد يكون أحد الأسباب القوية للاضطراب، مما يؤدي إلى عزلهم داخل أسوارها الذاتية المغلقة في وجوه الآخرين.
لذا يمكن القول إن الأطفال المصابين بالتوحد غالبا ما تكون بيئاتهم أقل تفاعلية، وأكثر جمودا وانسحابية مما يجعل الطفل شديد الانطوائية، وهو ما تدعمه الأمور التي تعزل الطفل عن واقعه، كالتلفاز وقنوات الأطفال، خاصة في أول عامين؛ إذ إنها فترة تفاعل الطفل بالإرسال والاستقبال مع العالم الخارجي، لكن -ووفقا للخبراء فإن ما تفعله برامج التلفزيون للطفل في هذا العمر هي أنها تعطيه الكثير من الصور، وهو بعد بلا رصيد لغوي يسعفه في الاستيعاب، ولا تستقبل منه شيئا مما يؤثر على تفاعله مع الواقع المحيط، فتضعه تحت احتمالية الإصابة بذاك.
في تفسيرهم لآثار الشاشة على عقل الطفل، يرى الأخصائيون أن ارتباط الطفل بالشاشة، وإن كان لا يُنشئ اضطراب التوحد لديه، إلا إنه يؤدي إلى تأثيرات مشابهة قد تختلط عند تشخيصها بالأعراض التوحدية الحقيقية عند الأطفال، فيرى الخبراء أن عددا من الأعراض المرتبطة بمرض التوحد، كعدم استجابة الطفل عند مناداته واللعب بمفرده دوما والحركة المفرطة أو الخمول؛ إلى جانب عدم إدراك الخطر وعدم التواصل البصري ونوبات من البكاء أو الضحك المفاجأة، هي سِمات أساسية لإصابة الطفل بالتوحد أو لكونه ضحية قنوات الأطفال التي تعتمد على الصورة واللحن والرقص. مؤكدا على أن السمات المذكورة قد لا تكون بالضرورة دالة على إصابة الطفل بمرض التوحد بل هي مؤشرات للإسراع لمراجعة مختص.
فالطفل حينما يخضع للتلفاز في سن مبكرة يكون تحت تأثير صور سريعة بين الرقص والحركة، إلى جانب الموسيقى والإيقاعات واللهجات الغريبة عن الكلمات المتداولة في حياة الطفل، الأمر الذي يدفعه لصبَّ كل تركيزه على الإيقاع لكونه لا يفهم الكلمات، مما يؤثر على حيوية النطق عنده وتشتت الانتباه بسبب ما تعرضه من برامج وأناشيد قد لا تكون في غالبها خاضعة لمعايير الصحة النفسية وربما تحمل في طياتها ملامح أمراض نفسية قد تعطل حياة الأطفال.
إن الطفل يبدأ في الاستمتاع بالإيقاع، ثم يحاول التركيز على الصورة التي تُعرض أمامه بشكل سريع لا يمكن لدماغه اللحاق بها أو تخزينها؛ حتى تجد الطفل وقد التصق بشاشة التلفاز محاولا تتبع حركات الأطفال ورقصاتهم في ذلك التصوير، فلا تمضي بضع شهور حتى يُلاحظ على الطفل التركيز المباشر على الشاشة وعدم النطق، وقد يرافق هذه الأعراض تشتت في الانتباه لما هو خارج شاشة التلفاز وإطلاق صرخات بين الفينة والأخرى وفرط في الحركة وعدم الاندماج مع محيطه.
كما أن المهارات الاجتماعية تضعف وتتراجع نتيجة لتعلق الطفل بعالم افتراضي وانعزاله عن محيطه الاجتماعي. فالتجارب الاجتماعية التي يخوضها الأطفال أثناء نموهم، والمشاعر المختلفة التي يعيشونها من فرح وحزن وشجاعة وخوف تُشكّل في مضمونها شخصياتهم، حياتهم وحصيلتهم المجتمعية.
وحسب الأخصائي الدكتور حفني عبده، فإن أطفالا كثيرين يُعرضون عليه وهم لا يتحدثون ولا يتفاعلون، إلا إنهم يحفظون مقاطع كبيرة من أغاني ومقاطع الكرتون، موضحا أن الطفل في عاميه الأوليين يحتاج إلى تنمية اللغة التعبيرية والاستقبالية، لكن ما يحدث عند ترك الأطفال أمام تلك القنوات هو تنمية المهارة الاستقبالية فقط مع إهمال تام لمهارته التعبيرية .
بينما يرى الدكتور محمد الشامي استشاري الطب النفسي- أن الادعاء القائل بمسؤولية الشاشة التلفزيونية -والأجهزة الإلكترونية- عن اضطراب التوحد لدى الأطفال ليست صحيحة بشكل قاطع أو مثبت علميا، وإنما غاية ما في الأمر أن مكوث الطفل في سن مبكرة أمام التلفاز يؤدي إلى ضعف مهارات التواصل الاجتماعي، بمعنى إنه يكون أكثر انطوائية، فتجده أكثر خجلا وتفاعلا مع الناس، لكنه -حسب الشامي- لا يؤثر على الطفل السليم بالصورة التي تصيبه بالتوحد، وأن التوحد يحدث بالأصل بسبب اضطرابات يولد بها الطفل وليس مكتسبا.
لذا فإن الخلط الحادث في علاقة التوحد بالتلفاز -والأجهزة الذكية عموما- يبدو إنه بلا أساس علمي، أو أن الارتباط بالتلفاز لا يسبب التوحد أو يصنعه وإنما قد يستدعيه ويساعد على إظهاره، لكن هذا الأمر لا يُبرئ الشاشة من مسؤوليتها في التأثير على سلوك الطفل في أعوامه الأولى ما بين الانطوائية والعدوانية أو إضعاف العقل والتأثير على لغته ومهاراته الاجتماعية، فلو كان التوحد غامضا في أسبابه حتى الآن، فإن آثار الشاشة في الأعوام الأولى تبدو أكثر وضوحا.
ونتيجة لهذا توصي الأكاديمية الأميركية لطب الأطفال بألا يشاهد الأطفال تحت السنتين التلفاز؛ لأن الاستخدام المفرط للأجهزة الحديثة يضعف القدرة النمائية في الجانب الذهني والتفكير التخيلي عند الطفل. إذ أن تطور الدماغ يعتمد على التعرض لمحفزات بيئية مختلفة، وكثرة استخدام التكنولوجيا تؤثر سلبيا على نمو مراكز الدماغ فتقلل من التفكير والإبداع وتزيد حالات التوتر والقلق وتؤثر سلبا في التعليم والتفكير.
هل لديك حساب
ليس لديك أي حساب